الذكاء الفطري حمى مسلمي سيبيريا من الانصهار في بوتقة الشيوعية
سيبيريا أكبر صحراء جليدية في العالم، تبلغ مساحة أراضيها 12 مليونا و675 ألف كيلومتر مربع وهي تفوق مساحة قارة أوروبا، وبالرغم من هذه المساحة الشاسعة، ومناخها البارد فقد بلغتها قوافل الدعاة إلى الله منذ وقت مبكر من تاريخ الدعوة الإسلامية العالمية، وجاهدوا المناخ الصعب، من أجل نشر الإسلام والتعريف الصحيح بهداياته ونشر المعارف الإسلامية الصحيحة بين سكان البلاد.
ويعد اِلإسلام أول دين سماوي عرف في سيبيريا، حيث خضعت سيبيريا للحكم الإسلامي في عام 978 هـ ـ 1570م في عهد الإمبراطور «كوشيم خان» الذي ساعد على دفع مسيرة المد الإسلامي في سيبيريا، إلا أن الروس القياصرة عملوا على إبادة التراث الإسلامي الوفير، بعد احتلالهم مدينة سيبر العاصمة في عام 988 هـ ـ 1580م، ورفضوا إقامة كيان سياسي لسيبيريا فظلت حتى اليوم مجرد إقليم تابع لجمهوريات روسيا الاتحادية.
سبعة دعاة
والجالية الإسلامية في سيبيريا خليط من التتار والمغول والأوزبك والقوميات الأخرى المنتشرة في بلاد التركستان، بالإضافة إلى المسلمين في سيبيريا. وقد عثر في سيبيريا على مقابر سبعة من دعاة الإسلام الأول، وعلى آثار مساجد صغيرة، بنيت وفقا للطراز المعماري البسيط.
وقد تأسست أول جالية إسلامية في سيبيريا في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، عندما هاجر إليها عدد من مسلمي مدن «بخارى» و«سمرقند» و«قازان» بآسيا الوسطى، وعملوا على نشر الدعوة الإسلامية بين قبائل «الإسكيمو».
تحديات النفي والتهجير
شمل التهجير الجبري أو النفي إلى سيبيريا أعدادا من المسلمين في مختلف مناطق آسيا الوسطي، ورغم مرارة النفي أو التهجير الجبري وجد المسلمون المهجّرون في المجتمع السيبيري إخوة لهم في الدين، وقد تحقق خلال فترة التهجير مبدأ «المؤاخاة» وتم إحياء هذا المفهوم الإسلامي بين جميع المسلمين في سيبيريا، فتلاشت مشاعر الغربة عن المهجرين الذين توفر لهم الاستقرار الاجتماعي، وبدأت مرحلة الانخراط في المجتمع السيبيري، نتج عنها التزاوج والمصاهرة بين المهجّرين وسكان سيبيريا، وسادت روح المحبة والأخوة في كافة المعاملات، وقد أدى ذلك إلى إنعاش مسيرة عمل الدعوة والتعليم وتوطيد دعائم المجتمع الإسلامي في سيبيريا.
وساعدت الهجرات التي تمت حتى القرن الثالث الهجري، من دول التركستان في دعم الجالية الإسلامية في سيبيريا، فقامت حضارة إسلامية في بعض مناطق سيبيريا، مثل منطقة السهول الغربية وحول بحيرة « بيكال» وفي شبه جزيرة «كومتشكا» وغيرها.
ونتيجة مباشرة لتعدد القوميات الإسلامية التي تم تهجيرها إلى سيبيريا، برزت أول دعوة نادت بضرورة وحدة المسلمين في المناطق والأقاليم التابعة لروسيا في دولة إسلامية واحدة، ولكن هذه الدعوة لاقت معارضة شديدة من الروس حتى وقتنا الحاضر، ولم يكن أمام مسلمي سيبيريا سوى التمسك بالاستقلال العقدي.
مكاسب دعوية
وبسبب سهولة تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وجهود مؤسسات الدعوة، والتعليم الإسلامي في سيبيريا بلغ عدد المسلمين السيبيريين أكثر من أربعة ملايين نسمة
ـ حسب إحصاءات عام 2005م ـ من إجمالي عدد السكان، البالغ أكثر من 28 مليون نسمة، ويتوقع زيادة أعداد المسلمين في سيبيريا خلال السنوات القليلة المقبلة.
وقد حققت الجالية الإسلامية في سيبيريا العديد من المكاسب الإيجابية لصالح الدعوة الإسلامية، حتى تأسست دولة إسلامية خالصة منذ عام 978هـ ـ 1570م، قصدها العلماء من المدن ذات الشهرة في التاريخ الإسلامي بمنطقة آسيا الوسطى.
وحافظت الأقلية المسلمة على هويتها العقائدية، رغم كافة الضغوط التي مارسها الروس عبر المراحل التاريخية المختلفة، فكلمة المسلمين واحدة، ولا توجد بينهم خلافات مذهبية أو سياسية، حتى انصهروا جميعا في بوتقة الدين الإسلامي الحنيف.
وتحرص الأسر المسلمة على تربية أولادها تربية إسلامية صحيحة، بفضل الأدوار الحضارية التي تؤديها المؤسسات الإسلامية في إبلاغ دعوة الإسلام، ونشر الثقافة الإسلامية الصحيحة بين المسلمين، وعلى رأسها، الإدارة الدينية ودار الإفتاء والمعاهد والمدارس الإسلامية، بالإضافة إلى المساجد المنتشرة في البلاد، والتي تعتبر من أهم المؤسسات الإسلامية التي نجحت في تطوير أدوارها بإحياء رسالة المسجد، باعتباره دارا للعبادة والتثقيف ودراسة أمور الدين والدنيا والتعرّف على قضايا أمتنا الإسلامية.
ترجمات معاني القرآن
لا شك أن خُطى التعريب في سيبيريا ما زالت في المهد، رغم وجود مساعي كبيرة لنشر اللغة العربية بين النشء المسلم عن طريق التوسع في إنشاء المدارس القرآنية والاهتمام بنشر حلقات تحفيظ القرآن الكريم بجميع المساجد.
ولقد أنجز علماء الإسلام في سيبريا بالتعاون مع المؤسسات الإسلامية العالمية ترجمات معاصرة لمعاني القرآن الكريم باللغات المتداولة في البلاد، مثل اللغة الروسية واللغة التترية واللغة الأوزبكية وغيرها.
وبجانب ذلك ترد أعداد كبيرة من المصاحف الشريفة وترجمات معانيها باللغات المحلية من الدول الإسلامية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، لدعم الثقافة الإسلامية.
ذكاء فطري
وقد تعامل مسلمو سيبيريا مع القوانين السوفيتية كافة بذكاء فطري، فحين وضعت العراقيل أمام تحركات الدعاة وحظرت تلاوة القرآن الكريم، صاغ المسلمون قيم الإسلام وتعاليمه، وأوامره ونواهيه في هيئة أناشيد شعبية، تتردد في كل وقت، دون أن يقع مسلم واحد في سيبيريا تحت طائلة القانون الجائر الذي بمقتضاه منع المسلمون من تأدية شعائر دينهم في حرية وعلنية.
وعندما أعلنت روسيا القيصرية قانون التسامح الديني في عام 1323هـ ـ 1905م، فوجئ الروس أن سكان مدن وقرى قد دخلوا في دين الله أفواجا.
ومع سقوط الشيوعية حصلت الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى على استقلالها، وتحسنت أوضاع المسلمين فنشط العمل الدعوي، وتمكنت الإدارات الدينية من ممارسة مهامها بحرية، حيث الإشراف الكامل على المساجد وتوفير الدعاة، وتدريبهم والإشراف على المعاهد والمدارس الإسلامية، وتوفير المعلمين اللازمين للعمل بها بعد أن كانت الإدارات الدينية مجرد «ديكور» في ظل النظام الشيوعي المنهار.